سلطة أمراء السلاح و«السلام»
تاريخ النشر: الخميس 25 أكتوبر 2012
عماد جانبيه
يعتبر كمال ديب مؤلف كتاب “أمراء الحرب وتجار الهيكل/ رجال السلطة والمال في لبنان”، أن العام 1975 كان نقطة فاصلة في تاريخ لبنان الطويل، يفصل بين ما جرى قبله من أحداث وبين كوارث جسام أصابته، من حرب محلية إقليمية طويلة وأزمات اقتصادية وسياسية، متفجرة أحياناً، ما زال لبنان يعالجها حتى اليوم.
حتى العام 1975 المصيري، كانت بيروت غنية ومتحررة تضج بالحياة والثروة والنشاط وتشكّل نطاقاً مفتوحاً للاتجاهات والتيارات من الشرق والغرب.
ويذكر المؤلف بأن اللبنانيين قد ناموا ليلة 12 نيسان 1975 على أحلام مستقبل سعيد وبحبوحة متزايدة، واستيقظوا يوم 13 نيسان على حرب ضروس استمرت 15 عاماً. كلّفت هذه الحرب لبنان خسائر بشرية ومادية خطيرة وجسيمة قياساً الى عدد سكانه ومساحته. ولم يسجل العام 1990 نهاية المصائب، بل ظهرت أزمات اقتصادية مهلكة في غياب مشروع مالي دولي لإعادة الإعمار، واستمرت اسرائيل في احتلال جزء مهم من لبنان حتى العام 2000 وعملت سوريا على تثبيت نفوذها عبر التأثير على مجريات النظام السياسي اللبناني وبالتالي على مجمل النشاط الاقتصادي والاجتماعي. ووصلت الأمور الى ذروتها عام 2005 حيث أدّت سلسلة أحداث تاريخية الى اغتيال رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري في 14 فبراير 2005 وخروج القوات السورية من لبنان في أبريل من العام نفسه، وعودة قوى سياسية لبنانية الى ساحة العمل، وارتباط مصير لبنان بصورة أوضح بالقرار الدولي عبر قرارات مجلس الأمن والدور المتعاظم لفرنسا والولايات المتحدة، وصولاً الى حرب أخرى مع إسرائيل في صيف 2006
يذكر المؤلف بأنه في العام 1980 وفي مقابلة مع مجلة أميركية، عبّر وليد جنبلاط زعيم الميليشيا الدرزية، عن خوفه من ركوب قطار الأنفاق في مدينة نيويورك. ولكنه في إقطاعيته الجبلية جنوب بيروت كان أمير حرب مهيب، يقود آلاف المقاتلين، ويقيم في قصر تاريخي في بلدة المختارة. ولم يقتصر دور أمير الحرب الذي حكم إقطاعية أو كانتوناً على زعيم الدروز، اذ خلال فترة الحرب الممتدة من 1975 الى 1990، طغى في لبنان عدّة أمراء حرب ينطبق عليهم، مثل السيد جنبلاط، اللقب الإيطالي Don، ومنهم على سبيل المثال آل فرنجية وآل الجميل وآل شمعون ونبيه بري وغيرهم.
يشدد هذا الكتاب على مسألتين: أولاهما أن الشخصيات هي التي رسمت وترسم أحداث هذا البلد، وليست الأحداث هي التي فرضت أمراً واقعاً وكأن الزعامات لا حول لها. والثانية، أن هذه الشخصيات المحلية هي الأكثر تأثيراً في أحداث لبنان من الشخصيات الإقليمية أو الدولية. وسبب هذا التشديد المزدوج على الدور الشخصي لأمراء الحرب والتجار هو غياب كتابات جدية ناقدة حول هؤلاء ودورهم في خلق لبنان، وتالياً في تدميره المادي والنفسي وانهياره المالي. وفي رأي المؤلف إن الطبقة الحاكمة في لبنان ـ سياسية واقتصادية ـ كانت وما تزال قبلية، تنضج بتجمع عائلات وائتلاف زعامات فردية هي في الحقيقة مجموعة حكام لمناطق يحظى كل منهم باستقلال شبه ذاتي في زمن السلم وشبه كامل في زمن الحرب. وينضم الى أمراء الحرب مجموعة من أصحاب الأعمال الذين يفضلون تعاطي المناورات وعقد الصفقات المربحة في مكاتبهم الفاخرة في مبان حديثة تزيّن شوارع بيروت، ويساهمون بوسائل مختلفة في الحرب والسلم المحليين.
عقلية تجارية
ويشير كمال ديب، الى ان تجذر العقلية التجارية في لبنان هو تقليد قديم، بدأ مع الفينيقيين قبل ثلاثة آلاف عام، واستمر مع تجار دمشق والبندقية منذ القرن الخامس عشر، واستفحل منذ القرن التاسع عشر مع بيروت المشرقية. ولكن لبنان القرن العشرين لم يصل الى النتيجة الطبيعية لتطوّر النظام الرأسمالي، ولم يخضع لعملية التحوّل الرأسمالي المستثمر والمبدع الذي أدى الى ولادة ديزني لاند مثلاً أو لاختراع التلفون الخليوي وخدماته الالكترونية التي تتطور كل يوم. ذلك أن التراث التجاري المشرقي الذي استمرّ في لبنان، دون غيره من دول المنطقة، تحوّل الى قالب جامد وغير مثير يستعيد ما يظن أنه نجاحات الماضي حيث يلتقي أصحاب النفوذ الاقتصادي والسياسي حول تبادل الخدمات والمنافع والبضائع بدون حوافز نهضة اقتصادية حقيقية كما حدث في تايوان وهونغ كونغ وكوريا وايرلندا. ولقد صبغ هؤلاء الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية في لبنان حتى أصبحت مسألة الانضمام الى طبقتهم فناً بحد ذاته ونمط حياة استهلاكية يسعى اليه المواطن.
ويذكر المؤلف في مضمون هذا الكتاب بأن ثمة عائلات صنعت مؤسسة عليا غير رسمية تجمع أمراء الحرب والتجار وأصحاب الأعمال على المصالح الخاصة، وتلعب هذه المؤسسة الدور الأكبر في الحياة المعاصرة اللبنانية مهما كان حجم النفوذ أو التدخل الخارجيين في لبنان، ومهما عظم شأن الأطراف الإقليمية أو الدولية وقوتها.
ولا يقتصر هذا التوصيف على العقود الأخيرة، بل يصف لبنان بأنه بلد قديم ذكر مراراً في كتاب العهد القديم، جذوره تعود الى الزمن ما قبل الكلاسيكي (أي قبل أثينا وروما) في التقويم الغربي، وصعوده الحديث يترافق مع التغلغل الثقافي والاقتصادي الأوروبي في منطقة شرق المتوسط منذ القرن السابع عشر. ومع مرور الوقت، سمح هذا التغلغل لبيروت أن تصبح مركزاً تجارياً عالمياً، تفتخر بصروح التعليم الجامعي العديدة، وبالمصارف والمؤسسات التجارية التي انتعشت في وسطها. ولكن هذا النمو أوصل دولة لبنان في القرن العشرين الى وضع هجين: فورة اقتصادية سطحية وسط وضع اجتماعي هش غابت عنه المساواة الاقتصادية والثقافية، وقاعدة بشرية متعددة الديانات والولاءات. حتى قبل اندلاع الحرب عام 1975، بدت معالم الأمراض المزمنة واضحة حيث احتكرت بيروت وبعض ضواحيها الثروة الاقتصادية والمعارف والسلطة، في حين استسلمت مناطق الأطراف لحياة الإقطاع والتخلف والحرمان.
وينبّه المؤلف إلى أن من يراقب الوضع اللبناني في بداية القرن الحادي والعشرين، ومن منطلق العام 2006 تحديداً، سيستنتج أن التبدلات الاجتماعية الكبرى والكوارث الأهلية التي حدثت في الفترة الممتدة من العام 1958 وحتى 2005 لم تؤد الى تغيير في النظام القبلي الطائفي المستمر منذ قرون. وحتى عندما توصل أمراء الحرب الى اتفاق وطني عام 1989. كان أساس “الجمهورية الثانية” (وهي تسمية ورثها لبنان من التقليد الفرنسي) هو المزيد من الإغراق في الطقوس التقليدية، ومن المحتمل أن يكون الاحتقان الطائفي في بداية القرن الحادي والعشرين أكثر منه في سبعينات القرن العشرين. اذ أعاد “اتفاق الطائف” توزيع السلطة استناداً الى شروط أمراء الحرب وحسب. وكان منطق ذلك أن نظام أمراء الحرب قد ساهم في تأمين الاستمرارية الشرعية والشعبية في الحكم خلال ألف عام، ويمكن تغيير هذا النظام “ليبدو” حديثاً ومتجاوباً مع مطالب قوى التغيير في المجتمع. وهكذا ارتدت النسخة المنقحة من النظام التقليدي حلتها الجديدة عام 1989 تحت تسمية اتفاق الطائف. فكان أكبر إنجاز حققه أمراء الحرب في اتفاق الطائف أنه ضمن دورهم في مستقبل لبنان لأجيال قادمة مقابل تراجع أسهم الدولة العلمانية الليبرالية الديمقراطية.
مقولات متضادة
ويسلط المؤلف الضوء على مقولات تداولتها اللغة السياسية اللبنانية، منها مقولة مفادها ان “الشعب اللبناني لا علاقة له بحروب الآخرين على أرضه”. والمقصود بالآخرين هم الأميركيون والاسرائيليون والفلسطينيون والسوريون والعراقيون والايرانيون الذين “خاضوا حروبهم القذرة في لبنان فيما كان الشعب اللبناني المسالم يقف جانباً يراقب ما يحدث”. وتحمل هذه المقولة جزءاً من الحقيقة، إلا أنها قللت من تعقيدات الصراع الداخلي اللبناني المحض. وهناك أدلة كثيرة ترفض محاولات تقليص مشاكل لبنان الى مقولة “العذاب اللبناني الطويل على أيدي الغرباء الأشرار”.
المعضلة ـ في رأي كمال ديب ـ كانت لبنانية أساساً، بمضاعفات اقليمية، إذ لا يمكن نكران الانفجار الاجتماعي المحلي الذي طفا على سطح الأحداث وكان من المسببات الرئيسية للحرب التي بدأت عام 1975. لقد وجّه أمراء الحرب الدعوة للأطراف الخارجية للتدخل في شؤون لبنان، كما شجع بعض أمراء الحرب التدخل الخارجي ولو لم بتعامل مباشرة مع التدخل. ولكن في الحالتين عمل هؤلاء على الاستفادة من هذا التدخل. فإذا كان لب الأزمة في لبنان هوحروب الآخرين والتدخل الخارجي، فسيجد المراقب صعوبة في توضيح سبب استمرار الصراع الأهلي في الثمانينات بعد خروج الجيوش الأجنبية من بؤر التوتر في لبنان ما منح فرصة تاريخية للبنانيين لرأب الصدع. فالحرب اللبنانية استمرت بعد العام 1982 وقام اللبنانيون بنحر بعضهم البعض على وتيرة غير مسبوقة. وفي معظم الأحيان كانت المعارك تدور بين من كانوا حلفاء الأمس أو بين أبناء طائفة بعينها، حيث شهد عقد الثمانينات حروباً أهلية صغيرة داخل صفوف المسيحيين والمسلمين.
لقد دفع لبنان ثمناً باهظاً للمعايير النمطية التي أتبعها الإعلام الغربي والحكومات الغربية بشغف. وهذا ما برز بوضوح بعد نهاية الحرب الأهلية عام 1990. فقد غاب لبنان عن رادار وسائل الإعلام العالمية التي توجهت الى بؤر أخرى أكثر سخونة في العالم في التسعينات، رغم مآسيه الاجتماعية والاقتصادية المستمرة.
أما قصة لبنان كمجتمع فقد اختفت وأهمل وضع الشعب اللبناني ومعاناته الطويلة. فلم يكن هناك “مشروع مارشال” دولي لإعادة الإعمار والتنمية في سنوات ما بعد الحرب، كما حدث لأوروبا بعد الحرب العالمية الثانية. فغرقت الدولة اللبنانية بالديون في التسعينات، لأسباب متعددة، منها المحاولة الجبارة لتنفيذ مشاريع كبرى حيوية وضرورية لعودة عجلة الاقتصاد الى سابق مجدها، دون إغفال دور الهدر والفساد في التدهور المالي.
حتى العام 1975 المصيري، كانت بيروت غنية ومتحررة تضج بالحياة والثروة والنشاط وتشكّل نطاقاً مفتوحاً للاتجاهات والتيارات من الشرق والغرب.
ويذكر المؤلف بأن اللبنانيين قد ناموا ليلة 12 نيسان 1975 على أحلام مستقبل سعيد وبحبوحة متزايدة، واستيقظوا يوم 13 نيسان على حرب ضروس استمرت 15 عاماً. كلّفت هذه الحرب لبنان خسائر بشرية ومادية خطيرة وجسيمة قياساً الى عدد سكانه ومساحته. ولم يسجل العام 1990 نهاية المصائب، بل ظهرت أزمات اقتصادية مهلكة في غياب مشروع مالي دولي لإعادة الإعمار، واستمرت اسرائيل في احتلال جزء مهم من لبنان حتى العام 2000 وعملت سوريا على تثبيت نفوذها عبر التأثير على مجريات النظام السياسي اللبناني وبالتالي على مجمل النشاط الاقتصادي والاجتماعي. ووصلت الأمور الى ذروتها عام 2005 حيث أدّت سلسلة أحداث تاريخية الى اغتيال رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري في 14 فبراير 2005 وخروج القوات السورية من لبنان في أبريل من العام نفسه، وعودة قوى سياسية لبنانية الى ساحة العمل، وارتباط مصير لبنان بصورة أوضح بالقرار الدولي عبر قرارات مجلس الأمن والدور المتعاظم لفرنسا والولايات المتحدة، وصولاً الى حرب أخرى مع إسرائيل في صيف 2006
يذكر المؤلف بأنه في العام 1980 وفي مقابلة مع مجلة أميركية، عبّر وليد جنبلاط زعيم الميليشيا الدرزية، عن خوفه من ركوب قطار الأنفاق في مدينة نيويورك. ولكنه في إقطاعيته الجبلية جنوب بيروت كان أمير حرب مهيب، يقود آلاف المقاتلين، ويقيم في قصر تاريخي في بلدة المختارة. ولم يقتصر دور أمير الحرب الذي حكم إقطاعية أو كانتوناً على زعيم الدروز، اذ خلال فترة الحرب الممتدة من 1975 الى 1990، طغى في لبنان عدّة أمراء حرب ينطبق عليهم، مثل السيد جنبلاط، اللقب الإيطالي Don، ومنهم على سبيل المثال آل فرنجية وآل الجميل وآل شمعون ونبيه بري وغيرهم.
يشدد هذا الكتاب على مسألتين: أولاهما أن الشخصيات هي التي رسمت وترسم أحداث هذا البلد، وليست الأحداث هي التي فرضت أمراً واقعاً وكأن الزعامات لا حول لها. والثانية، أن هذه الشخصيات المحلية هي الأكثر تأثيراً في أحداث لبنان من الشخصيات الإقليمية أو الدولية. وسبب هذا التشديد المزدوج على الدور الشخصي لأمراء الحرب والتجار هو غياب كتابات جدية ناقدة حول هؤلاء ودورهم في خلق لبنان، وتالياً في تدميره المادي والنفسي وانهياره المالي. وفي رأي المؤلف إن الطبقة الحاكمة في لبنان ـ سياسية واقتصادية ـ كانت وما تزال قبلية، تنضج بتجمع عائلات وائتلاف زعامات فردية هي في الحقيقة مجموعة حكام لمناطق يحظى كل منهم باستقلال شبه ذاتي في زمن السلم وشبه كامل في زمن الحرب. وينضم الى أمراء الحرب مجموعة من أصحاب الأعمال الذين يفضلون تعاطي المناورات وعقد الصفقات المربحة في مكاتبهم الفاخرة في مبان حديثة تزيّن شوارع بيروت، ويساهمون بوسائل مختلفة في الحرب والسلم المحليين.
عقلية تجارية
ويشير كمال ديب، الى ان تجذر العقلية التجارية في لبنان هو تقليد قديم، بدأ مع الفينيقيين قبل ثلاثة آلاف عام، واستمر مع تجار دمشق والبندقية منذ القرن الخامس عشر، واستفحل منذ القرن التاسع عشر مع بيروت المشرقية. ولكن لبنان القرن العشرين لم يصل الى النتيجة الطبيعية لتطوّر النظام الرأسمالي، ولم يخضع لعملية التحوّل الرأسمالي المستثمر والمبدع الذي أدى الى ولادة ديزني لاند مثلاً أو لاختراع التلفون الخليوي وخدماته الالكترونية التي تتطور كل يوم. ذلك أن التراث التجاري المشرقي الذي استمرّ في لبنان، دون غيره من دول المنطقة، تحوّل الى قالب جامد وغير مثير يستعيد ما يظن أنه نجاحات الماضي حيث يلتقي أصحاب النفوذ الاقتصادي والسياسي حول تبادل الخدمات والمنافع والبضائع بدون حوافز نهضة اقتصادية حقيقية كما حدث في تايوان وهونغ كونغ وكوريا وايرلندا. ولقد صبغ هؤلاء الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية في لبنان حتى أصبحت مسألة الانضمام الى طبقتهم فناً بحد ذاته ونمط حياة استهلاكية يسعى اليه المواطن.
ويذكر المؤلف في مضمون هذا الكتاب بأن ثمة عائلات صنعت مؤسسة عليا غير رسمية تجمع أمراء الحرب والتجار وأصحاب الأعمال على المصالح الخاصة، وتلعب هذه المؤسسة الدور الأكبر في الحياة المعاصرة اللبنانية مهما كان حجم النفوذ أو التدخل الخارجيين في لبنان، ومهما عظم شأن الأطراف الإقليمية أو الدولية وقوتها.
ولا يقتصر هذا التوصيف على العقود الأخيرة، بل يصف لبنان بأنه بلد قديم ذكر مراراً في كتاب العهد القديم، جذوره تعود الى الزمن ما قبل الكلاسيكي (أي قبل أثينا وروما) في التقويم الغربي، وصعوده الحديث يترافق مع التغلغل الثقافي والاقتصادي الأوروبي في منطقة شرق المتوسط منذ القرن السابع عشر. ومع مرور الوقت، سمح هذا التغلغل لبيروت أن تصبح مركزاً تجارياً عالمياً، تفتخر بصروح التعليم الجامعي العديدة، وبالمصارف والمؤسسات التجارية التي انتعشت في وسطها. ولكن هذا النمو أوصل دولة لبنان في القرن العشرين الى وضع هجين: فورة اقتصادية سطحية وسط وضع اجتماعي هش غابت عنه المساواة الاقتصادية والثقافية، وقاعدة بشرية متعددة الديانات والولاءات. حتى قبل اندلاع الحرب عام 1975، بدت معالم الأمراض المزمنة واضحة حيث احتكرت بيروت وبعض ضواحيها الثروة الاقتصادية والمعارف والسلطة، في حين استسلمت مناطق الأطراف لحياة الإقطاع والتخلف والحرمان.
وينبّه المؤلف إلى أن من يراقب الوضع اللبناني في بداية القرن الحادي والعشرين، ومن منطلق العام 2006 تحديداً، سيستنتج أن التبدلات الاجتماعية الكبرى والكوارث الأهلية التي حدثت في الفترة الممتدة من العام 1958 وحتى 2005 لم تؤد الى تغيير في النظام القبلي الطائفي المستمر منذ قرون. وحتى عندما توصل أمراء الحرب الى اتفاق وطني عام 1989. كان أساس “الجمهورية الثانية” (وهي تسمية ورثها لبنان من التقليد الفرنسي) هو المزيد من الإغراق في الطقوس التقليدية، ومن المحتمل أن يكون الاحتقان الطائفي في بداية القرن الحادي والعشرين أكثر منه في سبعينات القرن العشرين. اذ أعاد “اتفاق الطائف” توزيع السلطة استناداً الى شروط أمراء الحرب وحسب. وكان منطق ذلك أن نظام أمراء الحرب قد ساهم في تأمين الاستمرارية الشرعية والشعبية في الحكم خلال ألف عام، ويمكن تغيير هذا النظام “ليبدو” حديثاً ومتجاوباً مع مطالب قوى التغيير في المجتمع. وهكذا ارتدت النسخة المنقحة من النظام التقليدي حلتها الجديدة عام 1989 تحت تسمية اتفاق الطائف. فكان أكبر إنجاز حققه أمراء الحرب في اتفاق الطائف أنه ضمن دورهم في مستقبل لبنان لأجيال قادمة مقابل تراجع أسهم الدولة العلمانية الليبرالية الديمقراطية.
مقولات متضادة
ويسلط المؤلف الضوء على مقولات تداولتها اللغة السياسية اللبنانية، منها مقولة مفادها ان “الشعب اللبناني لا علاقة له بحروب الآخرين على أرضه”. والمقصود بالآخرين هم الأميركيون والاسرائيليون والفلسطينيون والسوريون والعراقيون والايرانيون الذين “خاضوا حروبهم القذرة في لبنان فيما كان الشعب اللبناني المسالم يقف جانباً يراقب ما يحدث”. وتحمل هذه المقولة جزءاً من الحقيقة، إلا أنها قللت من تعقيدات الصراع الداخلي اللبناني المحض. وهناك أدلة كثيرة ترفض محاولات تقليص مشاكل لبنان الى مقولة “العذاب اللبناني الطويل على أيدي الغرباء الأشرار”.
المعضلة ـ في رأي كمال ديب ـ كانت لبنانية أساساً، بمضاعفات اقليمية، إذ لا يمكن نكران الانفجار الاجتماعي المحلي الذي طفا على سطح الأحداث وكان من المسببات الرئيسية للحرب التي بدأت عام 1975. لقد وجّه أمراء الحرب الدعوة للأطراف الخارجية للتدخل في شؤون لبنان، كما شجع بعض أمراء الحرب التدخل الخارجي ولو لم بتعامل مباشرة مع التدخل. ولكن في الحالتين عمل هؤلاء على الاستفادة من هذا التدخل. فإذا كان لب الأزمة في لبنان هوحروب الآخرين والتدخل الخارجي، فسيجد المراقب صعوبة في توضيح سبب استمرار الصراع الأهلي في الثمانينات بعد خروج الجيوش الأجنبية من بؤر التوتر في لبنان ما منح فرصة تاريخية للبنانيين لرأب الصدع. فالحرب اللبنانية استمرت بعد العام 1982 وقام اللبنانيون بنحر بعضهم البعض على وتيرة غير مسبوقة. وفي معظم الأحيان كانت المعارك تدور بين من كانوا حلفاء الأمس أو بين أبناء طائفة بعينها، حيث شهد عقد الثمانينات حروباً أهلية صغيرة داخل صفوف المسيحيين والمسلمين.
لقد دفع لبنان ثمناً باهظاً للمعايير النمطية التي أتبعها الإعلام الغربي والحكومات الغربية بشغف. وهذا ما برز بوضوح بعد نهاية الحرب الأهلية عام 1990. فقد غاب لبنان عن رادار وسائل الإعلام العالمية التي توجهت الى بؤر أخرى أكثر سخونة في العالم في التسعينات، رغم مآسيه الاجتماعية والاقتصادية المستمرة.
أما قصة لبنان كمجتمع فقد اختفت وأهمل وضع الشعب اللبناني ومعاناته الطويلة. فلم يكن هناك “مشروع مارشال” دولي لإعادة الإعمار والتنمية في سنوات ما بعد الحرب، كما حدث لأوروبا بعد الحرب العالمية الثانية. فغرقت الدولة اللبنانية بالديون في التسعينات، لأسباب متعددة، منها المحاولة الجبارة لتنفيذ مشاريع كبرى حيوية وضرورية لعودة عجلة الاقتصاد الى سابق مجدها، دون إغفال دور الهدر والفساد في التدهور المالي.
0 comments:
إرسال تعليق