الخلاصة.. إنسان

 غالب غانم يروي سيرته في محراب القانون والعدالة

الخلاصة.. إنسان

في كتابه “باسم الشعب... وللشعب” يتحدث القاضي اللبناني غالب غانم عن اختياره لهذا السلك وحياته المديدة فيه، ويطرح تساؤلات عن مهنة المحاماة والقضاء، وبالتالي قضية العدالة، وفي ذلك يقول: “هل القضاء وسيلة أم غاية، أم الصورتان معاً... وهل آتي إليه لأن والدتي كانت تحدثني عن هيبة القاضي وتصنّفه في أعالي اللوحة الاجتماعية المتعدّدة المواقع والأنسجة. ولأن أبناء الأرياف، وأنا منهم، يخصّون القاضي بإجلال لا تحظى به عادة إلا فئات قليلة مختارة؟ وفي صدارة الأسئلة ايضاً، وهي هذه المرة من النوع الشائك الداخل في صميم الموضوع، بل في صميم المشكلة القضائية على إطلاقها: هل ان القضاء متعة أم مشقّة؟ رخاءٌ وارتخاء أم تهيؤ مستديم لاتخاذ موقف ولتحَمُّل الأصعب من المسؤوليات؟ وهل هو عطاء حتى التفاني، أم أخذ حتى تجاوز الخطوط، بأحمرها “وأصفرها وأخضرها”؟ ولنقل اكثر: هل يأتي القاضي الى هذا المحراب لبلسمة جراح الناس الطيّبين، وللانتصار لصاحب الحق، ضعيفاً كان أو قوياً... على ألا ينسى أن اليتامى والأيامى والمظلومين وأبناء السبيل والمكسورة شوكتهم والمأكول زادهم والمغلوبة إرادتهم والممتهنة كراماتهم من قبل أصحاب النّهم والغطرسة والاستكبار، هم دائماً الأضعف والأجدر بالحماية!... أم أنه يأتي للسّعي الى صدارة أو ليستظلّ قامة متصدّرين وليرضي ذوي نفوذ، سمّهم ما شئت... سياسيين كانوا أم غير سياسيين؟ ويتناول المؤلف الثقافات التي رسخت قواعد القضاء، ومنها “الإرث الذي آل الينا عن الأسلاف العرب، وعن أئمّة المسلمين، وهو حافل بأماثيل قضائية استحالت مدرسةً في ميدانها. فمن عهد الخليفة عمر حيث يقول لواليه: “آسِ بين الناس في وجهك وعدلك ومجلسك حتى لا يطمح شريف في حيفك ولا ييأس ضعيف من عدلك..” الى عهد الإمام علي وفيه يقول لواليه: “ثم اختر للحكم بين الناس أفضل رعيّتك في نفسك ممن لا تضيق به الأمور... ولا يكتفي بأدنى فهم دون اقصاء... وأَصرَمهُم عند اتّضاح الحكم، ممن لا يزدهيه إطراءً، ولا يستميله إغراء...”.
ويستطرد غانم قائلا: “من هذه الثقافات تلك الهابة علينا من وراء البحار. من عهد ارسطو اليوناني وقولته إنه من طبيعة الإنصاف أن يقَوّم اعوجاج القانون، حيث يخطىْ. ومن عهد سينيك (Sénéque) الروماني الذي كان يتوجه الى نيرون ـ وهو أظلمُ من ظلَم ـ بقوله إن العقوبة العادلة هي العقوبة المتوازنة لا المفرطة او المتهورة. حدث ذلك حين كان نيرون يستعد لإحراق روما انتقاماً من نفسه لنفسه لأنه لم يتمكن من نظم بيت واحد من الشعر. كما يقول التاريخ، أو كما تقول الاسطورة... ومن عهد مونتسكيو الفرنسي رائد نظرية فصل السلطات والخائف رغم ذلك من تعدّي السلطة القضائية على السلطة التشريعية، حين قال “ليس القاضي غير الفم الذي يلفظ كلمات القانون...”.
ويتناول المؤلف ما يسميه “القضاء والحرية ذاتُ اللغتين”، فيقول: “سُئلت مرة عن الكلمة الأحبّ الى قلبي فتردّدت حول اختيار واحدة من هذه: الحرية، العدالة، الانفتاح، السلام، الرحمة... وما لبثت أن حزمت أمري واخترت الحرية وقلت فيها “ما لم يقله مالك في الخمرة” والعشّاق المجانين في الحب”.

ويستخلص القاضي المتقاعد من سيرته مقولة معبرة: “لم أعد محامياً.. لم أعد قاضياً، لم أعد ىسوى انسان”، ويقول: حاولت، بعد انتمائي الى القضاء، ألاّ أتغير. لم أغيّر مشيتي ولا لهجتي ولا البساطة في تصرفي. وحافظت، بصورة خاصة، على الروافد الأصلية التي تتكوّن منها مناقبيتي. ومن المؤكد أنني لن أعدّدها لو ذكرتها ـ ما عدا النزعة الجليّة الى الاستقلال التي أعلنها باستمرار ـ لأمكن تصنيف ذلك في باب الفخر، وهو أبعد ما أميل اليه. هذا التطابق في الحالين لا ينفي وجوب تمتع القاضي بفضيلة “المسافة” عن الذات أولاً، وعن السلطات، وعن كل أنواع الإغراءات... بدون هذه المسافة تفقد المهنة القضائية خصيصة تقيها التجارب وألوان الضغوط وفواح تفاح الجنة الذي جرّ الانسان الى الخطيئة الأصلية، وفق ما هو مأثور عن الأبوين الأولين”.
ويختم القاضي غالب غانم بأمنية الانتماء الى ما قاله انطونان بسّون (Antonin Besson) مدّعي عام الجمهورية الفرنسي “في التحليل الأخير، لم أعد قاضياً، لم أعد محامياً، لم أعد سوى انسان، وهذه أرفع صفة تخوّلني التحدّث عن عدالة البشر”.

0 comments:

إرسال تعليق

Twitter Delicious Facebook Digg Stumbleupon Favorites More